الصحوة العربية وإعادة الاعتبار للمعنى

منذ تصريح الرئيس المصري الراحل أنور السادات بأن "99 بالمائة من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط هي في يد أمريكا"، وحتى سقوط نظام مبارك في مصر، ساد في العالم العربي عصر غريب عجيب، عصر بدأ بتصريح مدوٍ، وانتهى بسقوط مدوٍ، وكأن السقوط لم يكن تغيير نظام وحسب، بل وكأنه سقوط، بعد طول انتظار، لذاك التصريح. عصر قلبت فيه المفاهيم وشوهت فيه القيم، عصر أطلقت عليه كثير من التسميات على غير مُسمّاها، "عصر السلام" كان إحداها، "العصر السعودي" كانت تسمية أخرى. عصر جُمّل فيه قبح المسمى بجمال التسمية، فالإستسلام سُمي سلاما، وقُبّحَ جمالُ المسمى بقبح التسمية، فصار الكفاح من أجل استرداد الإرادة يسمى إرهابا. عصر كان أكثر التسميات ملائمة لطبيعته، هي تلك الصيحة من الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، عصر "انتحار المعنى في العالم العربي" ...

ولا بد لنا ونحن نشاهد مصر تضع الشاهد على قبر ذاك العصر وذاك التصريح، أن نستحضر بعض المفاهيم المقلوبة، علنا نفلح في تقييم إعوجاجها، وإعادة صياغتها. ولسنا هنا ندّعي امتلاك البصيرة لإعادة المعنى إلى التسميات، إنما هي محاولة وجسارة على مراجعة كل ما تم ترويجه ونقله وحفظه من مفاهيم ذاك العصر، وإعادة الاعتبار لمنهج الشك في التعاطي مع المألوف، شك وجسارة سعى أيضا ذاك العصر لطمسها، واعتبارها، زورا، خروجا عن ما آتانا به آباؤونا الأولون. وبغياب تلك الجسارة وطمسها ومحاربتها، عُطّل العقل العربي، وحُبست حركته، فغاب عن الساحة فعله، وساد ذلك العصر الغريب العجيب، والعجب والغرابة فيه أنه ساد. ولا بد لنا ونحن نستجمع الشجاعة على الشك في المنقول، أن نعرض بعض الأمثلة على المفاهيم التي روجت واستقرت في الذهن العربي وأصبحت من المسلمات، كل واحدة منها، إن نظرنا لها منفردة، تبدو منطيقة. لكننا إن تعاطينا مع تداخلها بعضها البعض، ومع منظومة الوعي التي كونتها تفاعلاتها، فهي تبدو هدّامة.

عدونا أسبق منا في العلم، والصناعة، والسلاح.

إن الأحداث تتسارع علينا وتداهمنا دون أن نكون لها مستعدين، فلم تكن عندنا فسحة من الخيارات.

العالم كله إما واقف مع العدو، أو متخل عنا نواجه مصيرنا وحدنا.

علينا أن نعي أن الواقع يفرض علينا أحكامه، وأن نكون واقعيين، فذلك أدعى للسلامة من المكابرة والعناد.

إن شعوبنا سئمت الحرب والدمار والدماء، فالعدو جزء من تحالف دولي مسيطر على التراب والماء والفضاء، ونحن لا قبل لنا في مواجهته، وعلينا ترتيب الحد الأدنى من مصالحنا عن طريق الانخراط فيه، والالتحاق به، وأن نكون جزءا منه.

إن كل مفهوم من تلك المفاهيم يبدو، لحد ما، صحيحا بحد ذاته، لكن تفاعلها مع بعضها البعض يخلق منظومة وعي تبالغ في تصوير قدرة العدو وإمكانياته وتفوقه وكأنه الكمال، وتبالغ في تصوير ضعفنا وتشرذمنا وانعدام الحيلة في أمرنا، وكأنه قدر محتوم ليس منه مناص. وكان الجو مهيأ، والواقع صُور شاهدا، وتم خلط تبعات الأمور لتصبح أسبابها، وكل ذلك ليساعد على ترويج تلك المنظومة على أنها براءة في التعقل، ونزاهة في الإدراك. ومن هنا تبدو أزمة العرب معقدة ومستعصية عن أي حل، وهي كذلك معقدة ولكنها ليست مستعصية، فالخلل في المنظومة، بعيدا عن البراءة من عدمها، هو أنها جعلت العامل الخارجي في الأزمة هو الفاعل الوحيد (99 بالمائة من أوراق اللعبة)، مما ضخم من حجمه ودوره دون لزوم. والآن، بعد أن زالت بعض الغيوم من عتمة تلك المنظومة، مما أمكن للنور من خلالها العبور، وعندما ثارت الشعوب مؤكدة وجودها، ومضحية بدمائها لإسترداد دورها، صار لزاما علينا إعادة الاعتبار للعامل الداخلي، ووضعه جنبا إلى جنب مع العامل الخارجي، علنا نصل إلى وصفة لتقوييم اعوجاج المنظومة. لأن أزمتنا المعقدة، تتشابك فيها أسباب موروثة وأخرى محدثة، بعضها ظاهر والبعض الآخر خفي، والدور في تعقيدها ثنائي في التاريخ العربي الحديث. وتتجلى تلك الثنائية في أن جانب من التعقيد أن العرب يقطنون منطقة طالما تصارعت القوى الكبرى في محيطها الحضاري للسيطرة على موقعها الجغرافي، وجاءت المنطقة في منتصف القرن العشرين، لتكشف عن كنز في باطنها لا يستغني عنه أحد، فصار إلحاح قوى السيطرة في العالم على كسب الصراع في المنطقة واجبا، بل إن السيطرة على الكنز صارت تستدعي القتل إن لزم الأمر، ويكون القتل مبررا. والجانب الآخر أن العرب في تعاملهم مع هذا الصراع الدائر على أرضهم، تعاملوا على مستوى أدنى بكثير مما كان في مقدورهم، وأن فقدانهم الهمة في مواجهة الصراع، وفي تحويله من صراع على مقدراتهم، إلى صراعهم هم مع البقية على تلك المقدرات، ساهم ذلك التصور في دفع الأمة نحو حافة إلغاء الوجود، أيضا دون لزوم. وإن كان صحيحا أن إنكار محاولة الخارج السيطرة على مقدراتنا، وبالقتل أحيانا، هو إنكار لحقائق الواقع، ولحقائق الجغرافيا. فإن محاولات إنكار أننا ساهمنا بوصولنا، بأقدامنا، إلى حافة إلغاء الوجود، هي أيضا بدورها محاولة للتهرب من المسؤولية، وللتهرب من استحقاقات التاريخ.

وكما قلنا في البداية، ليست هذه الكلمات محاولة للإدعاء بامتلاك البصيرة والمعاني الصحيحة للأشياء، إنما هي دعوة لمواصلة البناء على ما بدأ به رفاعة الطهطاوي، وزاد عليه محمد عبده، في المحاولة لإعادة الروح للفكر ولإعلاء سلطان العقل، وهذان لا يعلوان إلا إذا ملكت الأمة الشجاعة والجسارة للشك في كل ما هو مألوف ومنقول وموروث. علنا بعدها ننجح في إعادة الروح إلى المعنى، روحٌ فارقته في عالمنا، بعد أن آثر هو، أي المعنى، أن يفارقنا بالانتحـــــار.





Bookmark and Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الرجاء ترك رسالتك وفق معاييرك التربوية